دراسات
إسلامية
من مظاهر
رحمة النبي صلى
الله عليه
وسلم
بقلم: أبو
عائض القاسمي
المباركفوري
بعث
الله تعالى
رسوله محمدا
رحمة
للعالمين،
وكان بالمؤمنين
رؤوفًا
رحيمًا، ولم
يكن فظا غليظ
القلب، قال
الله تعالى: ﴿وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا
رَحْمَةً لِلْعٰلَمِينَ﴾
[الأنبياء/107].
وصفت
هذه الآية
الكريمة بعثة
الرسول -صلى
الله عليه
وسلم- وصفًا
جامعًا تتفق
وعمومها
وشمولها وذلك
كونها رحمة
للعالمين،
فهي على وجازتها تشتمل
على «ذكر
الرسول، ومرسله،
والمرسل
إليهم،
والرسالة،
وأوصاف هؤلاء
الأربعة، مع
إفادة عموم
الأحوال،
واستغراق
المرسل
إليهم،
وخصوصية
الحصر،
وتنكير رحمة
للتعظيم، إذ
لا مقتضى: ﴿وَمَا
أَرْسَلْنٰكَ
إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعٰلَمِينَ﴾
[الأنبياء/107]
لإيثار
التنكير في
هذا المقام غير
إرادة
التعظيم وإلا
لقيل: «إلا
لنرحم الْعٰلَمِيْن»،
أو «إلا أنك
الرحمة لِلْعٰلَمِيْن»(1).
ووقوع
الوصف مصدرًا
يفيد
المبالغة في
هذا الاتحاد
بحيث تكون
الرحمة صفة
متمكنة من
إرساله، ويدل
لهذا المعنى
ما أشار إلى
شرحه النبي
-صلى الله
عليه وسلم-
بقوله: «إنما
أنا رحمة
مهداة»(2).
ونظّر
الزمخشري -
رحمة الله-
فقال:
«ومثاله: أن يفجر
الله عينا
غديقة، فيسقي
ناس زروعهم
ومواشيهم
بمائها
فيفلحوا،
ويبقى ناس
مفرطون عن السقي
فيضيعوا،
فالعين
المفجرة في
نفسها، نعمة
من الله ورحمة
للفريقين،
ولكن الكسلان
محنة على
نفسه، حيث
حرمها ما
ينفعها»(3).
ويقول
الإمام
الرازي في
تفسيره: «إنه
عليه السلام
كان رحمة في
الدين وفي
الدنيا، أما
في الدين؛
فلأنه - عليه
السلام- بعث
والناس في
جاهلية
وضلالة، وأهل
الكتابين
كانوا في حيرة
من أمر دينهم
لطول مكثهم
وانقطاع
تواترهم
ووقوع الاختلاف
في كتبهم فبعث
الله تعالى
محمدًا -صلى
الله عليه
وسلم- حين لم
يكن لطالب
الحق سبيل إلى
الفوز
والثواب،
فدعاهم إلى
الحق وبين لهم
سبيل الثواب،
وشرع لهم
الأحكام وميز
الحلال من
الحرام، ثم
إنما ينتفع
بهذه الرحمة
من كانت همته
طلب الحق فلا
يركن إلى
التقليد ولا إلى
العناد
والاستكبار
وكان التوفيق
قرينا له، قال
الله تعالى:﴿قُلْ
هُوَ
لِلَّذِيْنَ
آمَنُوا
هُدًى وَشِفَاءٌ﴾
إلى قوله: ﴿وَهُوَ
عَلَيْهِمْ
عَمًى﴾ [فصلت/44].
وأما في
الدنيا؛
فلأنهم
تخلصوا بسببه من
كثير من الذل
والقتال
والحروب
ونصروا ببركة
دينه»(4).
وقال
القرطبي في
تفسير قوله
تعالى: ﴿إِنَّ
اللهَ
اصْطَفىٰ
آدَمَ
وَنُوحًا
وَآلَ إِبْرٰهِيْمَ
وَآلَ عِمْرٰنَ
عَلَى الْعٰلَمِينَ﴾
[آل عمران/33]:
«وقيل: (على
العٰلمين):
على جميع
الخلق كلهم
إلى يوم
الصور، وذلك
أن هؤلاء رسل
وأنبياء فهم
صفوة الخلق،
فأما محمد
-صلى الله عليه
وسلم- فقد
جازت مرتبته
الاصطفاء؛
لأنه حبيب ورحمة.
قال الله
تعالى: ﴿وَمَا
أَرْسَلْنٰكَ
إِلَّا
رَحْمَةً
لِلْعٰلَمِينَ﴾
[الأنبياء/107]
فالرسل خلقوا
للرحمة،
ومحمد -صلى الله
عليه وسلم-
خلق بنفسه
رحمة، فلذلك
صار أمانا
للخلق، لما
بعثه الله أمن
الخلق العذاب
إلى نفخة
الصور. وسائر
الأنبياء لم
يحلوا هذا
المحل، ولذلك
قال عليه
السلام: «أنا
رحمة مهداة» يخبر
أنه بنفسه
رحمة للخلق من
الله. وقوله
(مهداة) أي
هدية من الله
للخلق»(5).
مظاهر
رحمته-صلى
الله عليه
وسلم-:
وتفصيل
ذلك يظهر في
مظهرين: الأول
تخلق نفسه
الزكية بخلق
الرحمة،
والثاني
إحاطة
الرحمةبتصاريف
شريعته.
المظهر
الأول: قال
القاضي عياض
في «الشفاء»:
قال أبو بكر
محمدبن طاهر:
زين الله
تعالى محمدًا
-صلى الله عليه
وسلم- بزينة
الرحمة، فكان
كونه رحمة،
وجميع شمائله
وصفاته رحمة
على الخلق،
فمن أصابه شيء
من رحمته فهو
الناجي في الدارين
من كل مكروه،
والواصل
فيهما إلى كل
محبوب(6).
وقال
ابن عاشور في
تفسيره: «يعني
أن محمدًا -صلى
الله عليه
وسلم- فطر على
خلق الرحمة في
جميع أحوال
معاملته
الأمة لتتكون
مناسبة بين روحه
الزكية وبين
ما يلقى إليه
من الوحي
بشريعته التي
هي رحمة حتى
يكون تلقيه الشريعة
عن انشراح نفس
أن يجد ما
يوحى به إليه ملائما
رغبته
وخلقه.قالت
عائشة - رضي
الله عنها-:
«كان خلقه
القرآن»(7).
ولهذا خص الله
محمدًا -صلى
الله عليه
وسلم- في هذه
السورة بوصف
الرحمة ولم
يصف به غيره
من الأنبياء،
وكذلك في
القرآن كله،
قال تعالى:﴿لَقَدْ
جَاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ
عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ
حَرِيصٌ
عَلَيْكُمْ
بِالْـمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ
رَحِيمٌ﴾
[التوبة:128] وقال
تعالى: ﴿فَبِمَا
رَحْمَةٍ
مِنَ الله
لِنْتَ
لَهُمْ﴾ [آل
عمران/159] أي
برحمة جبلك عليها
وفطرك بها
فكنت لهم
لينا.وفي حديث
مسلم: أن رسول
الله لما شج
وجهه يوم أحد
شق ذلك على أصحابه
فقالوا: لو
دعوت عليهم
فقال: «إني لم
أبعث لعانا
وإنما بعثت
رحمة»(8).
المظهر
الثاني: «ومن
مظاهركونه
رحمة
للعالمين
مظهر تصاريف شريعته،
أي ما فيها من
مقومات
الرحمة العامة
للخلق كلهم؛
لأن قوله
تعالى (للعٰلمين)
متعلق بقوله
(رحمة)
والتعريف في
(للعٰلمين)
لاستغراق كل
ما يصدق عليه
اسم العالم. والعالم:
الصنف من
أصناف ذوي
العلم، أي
الإنسان، أو
النوع من
أنواع
المخلوقات
ذات الحياة كما
تقدم من
احتمال
المعنيين في
قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ
لله رَبِّ
الْعٰلَمِينَ﴾[الفاتحة:
2]. فإن أريد
أصناف ذوي
العلم فمعنى
كون الشريعة
المحمدية
منحصرة في
الرحمة أنها أوسع
الشرائع رحمة
بالناس؛ فإن
الشرائع السالفة
وإن كانت
مملوءة برحمة
إلا أن الرحمة
فيها غير عامة
إما؛ لأنها لا
تتعلق بجميع
أحوال المكلفين،
فالحنيفية
شريعة
إبراهيم -
عليه السلام-
كانت رحمة
خاصة بحالة
الشخص في نفسه
وليس فيها تشريع
عام، وشريعة
عيسى - عليه
السلام- قريبة
منها في ذلك،
وإما؛ لأنها
قد تشتمل في
غير القليل من
أحكامها على
شدة اقتضتها
حكمة الله في
سياسة الأمم
المشروعة هي
لها مثل شريعة
التوراة؛
فإنها أوسع
الشرائع
السالفة
لتعلقها
بأكثر أحوال
الأفراد
والجماعات،
وهي رحمة كما
وصفها الله
بذلك في قوله
تعالى: ﴿ثُمَّ
آتَيْنَا
مُوسَى
الْكِتٰبَ
تَمَامًا
عَلَى
الَّذِي
أَحْسَنَ
وَتَفْصِيلًا
لِكُلِّ
شَيْءٍ
وَهُدًى
وَرَحْمَةً
لَعَلَّهُمْ
بِلِقَآءِ
رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ﴾
[الأنعام: 154]،
فإن كثيرًا من
عقوبات أمتها
جعلت في فرض
أعمال شاقة
على الأمة
بفروض شاقة
مستمرة قال
تعالى: ﴿فَبِظُلم
مِنَ
الَّذِينَ
هَادُوْا
حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ
طَيِّبٰتٍ
أُحِلَّتْ
لَهُمْ﴾
وقال: ﴿فَتُوْبُوْا
إلىٰ
بَارِئِكُمْ
فَاقْتُلُوْا
أَنْفُسَكُمْ﴾
إلى آيات
كثيرة»(9).
وشريعته
-صلى الله
عليه وسلم-
أوسع الشرائع
رحمة بالعباد
وهي عامة
لجميع البشر
دون اختصاصها
بفئة منه، و
إليه يشير قول
الله تعالى-
فيما حكاه
خطابا منه
لموسى - عليه
السلام-: ﴿وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ
فَسَأَكْتُبُهَا
لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ
وَيُؤْتُونَ
الزَّكوٰةَ
وَالَّذِينَ
هُمْ بِآيٰتِنَا
يُؤْمِنُونَ *
الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ
النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ﴾
[الأعراف/156- 157]
الآية. «ففي
قوله تعالى: ﴿وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ﴾
إشارة إلى أن
المراد رحمة
هي عامة
فامتازت شريعة
الإسلام بأن
الرحمة
ملازمة للناس
بها في سائرأحوالهم
وأنها حاصلة
بها لجميع
الناس لا لأمة
خاصة»(10).
الحكمة
في تمييز
شريعة محمد
بهذه الميزة:
الحكمة
في تمييز
شريعة محمد
بهذه الميزة –
كما يقول ابن
عاشور – هي:
«أن أحوال
النفوس البشرية
مضت عليها
عصور وأطوار تهيأت
بتطوراتها؛
لأن تساس
بالرحمة وأن
تدفع عنها
المشقة إلا
بمقادير
ضرورية لا
تقام المصالح
بدونها، فما
في الشرائع
السالفة من
اختلاط
الرحمة
بالشدة وما في
شريعة
الإسلام من تمحض
الرحمة لم يجر
في زمن من
الأزمان إلا
على مقتضى
الحكمة؛ ولكن
الله أسعد هذه
الشريعة والذي
جاء بها
والأمة
المتبعة لها
بمصادفتها للزمن
والطور الذي
اقتضت حكمة
الله في سياسة
البشر أن يكون
التشريع لهم
تشريع رحمة
إلى انقضاء
العالم.
فأقيمت شريعة
الإسلام على
دعائم الرحمة
والرفق
واليسر. قال
تعالى: ﴿وَمَا
جَعَلَ
عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ﴾
[الحج/78] وقال
تعالى: ﴿يُرِيدُ
اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ
وَلَا يُرِيدُ
بِكُمُ
الْعُسْرَ﴾
[البقرة/ 185]،
وقال النبي
-صلى الله
عليه وسلم-: «بعثت
بالحنيفية
السمحة»(11).
ومن
مظاهر رفق هذه
الشريعة
ورحمته
بالبهائم أنها
أذنت
بالانتفاع
بما ينتفع به
من الحيوان
دون ما سواه
فكرهت صيد
اللهو وقتل
الحيوان لغير
أكله، وقد
يبلغ الرفق به
أعلى درجات
العبادة وأرجى
أسباب العفو
والغفران من
الله تعالى.
ومن ذلك حديث
أبي هريرة عن
رسول الله
-صلى الله عليه
وسلم-: «بينما
رجل يمشي
بطريق اشتد
عليه الحر،
فوجد بئرًا
فنزل فيها
فشرب، ثم خرج،
فإذا كلب يلهث
يأكل الثرى من
العطش فقال
الرجل: لقد
بلغ هذا الكلب
من العطش مثل
الذي كان بلغ مني،
فنزل البئر
فملأ خفه ماء،
ثم أمسكه بفيه
حتى رقي، فسقى
الكلب، فشكر
الله له،
فغفرله، قالوا:
يا رسول الله،
إن لنا في
البهائم
أجرًا؟ فقال:
في كل كبد
رطبة أجر»(12).
وأخرج
مسلم عن أبي
بكر بن أبي
شيبة بسنده
إلى أبي هريرة
أن رسول الله
-صلى الله
عليه وسلم-
قال: «إن
امرأة بغيا
رأت كلبًا في
يوم حار يطيف
ببئر قد أدلع
لسانه من
العطش فنزعت
له بموقها - أي استقت
له بخفها -
فغفر لها»(13). فقد غفر
الله لهذه
البغي ذنوبها
بسبب ما فعلته
من سقي هذا
الكلب.
والأحاديث في
الرفق بالحيوان
كثيرة.
* *
*
الهوامش:
(1) ابن
عاشور،
التحرير
والتنوير17/166.
(2) الحديث
رواه ابن أبي
شيبة في
المصنف برقم [31782]
راجع: ابن
عاشور17/166.
(3) الزمخشري،
الكشاف3/139.
(4) الرازي،التفسير
الكبير22/193.
(5) القرطبي،
الجامع
لأحكام
القرآن،
تفسير الآية.
(6) القاضي
عياض، الشفا1/56.
(7) رواه
الإمام أحمد
في مسنده [24601].
(8) ابن
عاشور،
التحرير
والتنوير17/166.
(9) ابن
عاشور،
التحرير
والتنوير17/167.
(10) ابن
عاشور17/167.
(11) الحديث
رواه أحمد في
المسند [22291]،
راجع: ابن
عاشور،
التحرير
والتنوير17/167.
(12) رواه
مسلم [2244] وابن
حبان في صحيحه
[2244] إلا أنه قال: «فشكر
الله له
فأدخله
الجنة».
(13) رواه
مسلم [2245].
* *
*
مجلة
الداعي
الشهرية
الصادرة عن
دار العلوم ديوبند
، ربيع الأول 1437
هـ = ديسمبر 2015م –
يناير 2016م ،
العدد : 3 ،
السنة : 40